فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الفخر:

{والله عَزِيزٌ حَكُيمٌ} أي غالب لا يمنع، مصيب أحكامه وأفعاله، لا يتطرق إليهما احتمال العبث والسفه والغلط والباطل.

.قال ابن عاشور:

وقوله: {والله عزيز حكيم} العزيز: القوى، لأن العزة في كلام العرب القوة {لَيُخْرِجَنَّ الأعز منها الأذل} [المنافقون: 8] وقال شاعرهم:
وإنما العزة للكاثر

والحكيم: المتقن الأمور في وضعها، من الحكمة كما تقدم.
والكلام تذييل وإقناع للمخاطبين، وذلك أن الله تعالى لما شرع حقوق النساء كان هذا التشريع مظنة المتلقى بفرط التحرج من الرجال، الذين ما اعتادوا أن يسمعوا أن للنساء معهم حظوظًا، غير حظوظ الرضا والفضل والسخاء، فأصبحت لهن حقوق يأخذنها من الرجال كرهًا، إن أبَوْا، فكان الرجال بحيث يرون في هذا ثلمًا لعزتهم، كما أنبأ عنه حديث عمر بن الخطاب المتقدم، فبين الله تعالى أن الله عزيز أي قوي لا يعجزه أحد، ولا يتقي أحدًا، وأنه حكيم يعلم صلاح الناس، وأن عزته تؤيد حكمته فينفذ ما اقتضته الحكمة بالتشريع، والأمر الواجب امتثاله، ويحمل الناس على ذلك وإن كرهوا. اهـ.

.قال أبو حيان:

{والله عَزِيزٌ حَكُيمٌ} تقدّم تفسير هذين الوصفين، وختم الآية بهما لأنه تضمنت الآية ما معناه الأمر في قوله: يتربصنّ، والنهي في قول: ولا يحل لهنّ، والجواز في قوله: وبعولتهنّ أحق، والوجوب في قوله: ولهنّ مثل الذي عليهنّ، ناسب وصفه تعالى بالعزة وهو القهر والغلبة، وهي تناسب التكليف، وناسب وصفه بالحكمة وهي إتقان الأشياء ووضعها على ما ينبغي، وهي تناسب التكليف أيضًا. اهـ.

.من فوائد الزمخشري في الآيات:

قال رحمه الله:

.[سورة البقرة: آية 219]:

{يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ}.
نزلت في الخمر أربع آيات نزلت بمكة: {وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا}.
وإذا اعتبرت الأسئلة المجردة عن الواو لم تجد بينها مداناة ولا مناسبة البتة، إذ الأول منها عن النفقة، والثاني عن القتال في الشهر الحرام، والثالث عن الخمر والميسر. فبين هذه الأسئلة من التباين والتقاطع ما لا يخفى، فذكرت كذلك مرسلة متعاطفة غير مربوطة بعضها ببعض، فتنبه لهذا السر فانه بديع لا تجده يراعى إلا في الكتاب العزيز، لاستيلائه على أسرار البلاغة ونكت الفصاحة، ولا يستفاد منه إلا بالتنقيب في صناعة البيان وعلم اللسان. وقد اشتمل جواب الزمخشري المقدم على وهم أنبه عليه، وذلك أنه قال: الأسئلة الثلاثة الأخيرة وقعت في وقت واحد وكانت في حكم السؤال الواحد، فربط بعضها ببعض بالواو، وهذا يقتضى كما ترى أن يقترن السؤال الثاني والثالث بالواو خاصة دون الأول، إذ الواو إنما يربط ما بعدها بما قبلها، فاقترانها بالأول لا يربطه بالثاني وإنما يربطه بما قبله، وعلى هذا تكون الأسئلة التي وقعت في وقت واحد أربعة أسئلة لا ثلاثة خاصة، وقد قال: إن الأسئلة المرتبطة الواقعة في وقت واحد هي الثلاثة الأخيرة، فهو واهم بلا شك وكل أحد مأخوذ من قوله ومتروك إلا المعصوم.
فكان المسلمون يشربونها وهي لهم حلال. ثم إن عمر ومعاذًا ونفرًا من الصحابة قالوا يا رسول اللَّه، أفتنا في الخمر فإنها مذهبة للعقل مسلبة للمال، فنزلت: {فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ} فشربها قوم وتركها آخرون. ثم دعا عبد الرحمن بن عوف ناسًا منهم فشربوا وسكروا فأمّ بعضهم فقرأ: قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون فنزلت: {لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى} فقل من يشربها. ثم دعا عتبان بن مالك قوما فيهم سعد بن أبى وقاص فلما سكروا افتخروا وتناشدوا حتى أنشد سعد شعرًا فيه هجاء الأنصار فضربه أنصارى بلحى بعير فشجه موضحة، فشكا إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم. فقال عمر: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا، فنزلت {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} إلى قوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} فقال عمر رضى اللَّه عنه: انتهينا يا رب. وعن علىّ رضى اللَّه عنه: لو وقعت قطرة في بئر فبنيت مكانها منارة لم أؤذن عليها ولو وقعت في بحر ثم جف ونبت فيه الكلأ لم أرعه. وعن ابن عمر رضى اللَّه عنهما: لو أدخلت أصبعى فيه لم تتبعني. وهذا هو الإيمان حقًا، وهم الذين اتقوا اللَّه حق تقاته. والخمر: ما غلى واشتدّ وقذف بالزبد من عصير العنب، وهو حرام، وكذلك نقيع الزبيب أو التمر الذي لم يطبخ، فإن طبخ حتى ذهب ثلثاه ثم غلى واشتدّ ذهب خبثه ونصيب الشيطان، وحلّ شربه ما دون السكر إذا لم يقصد بشربه اللهو والطرب عند أبى حنيفة. وعن بعض أصحابه: لأن أقول مرارًا هو حلال، أحبّ إلىّ من أن أقول مرة هو حرام، ولأن أخرّ من السماء فأتقطع قطعًا أحبّ إلىّ من أن أتناول منه قطرة. وعند أكثر الفقهاء هو حرام كالخمر، وكذلك كل ما أسكر من كل شراب. وسميت خمرًا لتغطيتها العقل والتمييز كما سميت سكرًا لأنها تسكرهما، أى تحجزهما، وكأنها سميت بالمصدر من «خمره خمرًا» إذا ستره للمبالغة. والميسر: القمار، مصدر من يسر، كالموعد والمرجع من فعلهما. يقال: يسرته، إذا قمرته، واشتقاقه من اليسر، لأنه أخذ مال الرجل بيسر وسهولة من غير كد ولا تعب، أو من اليسار.
لأنه سلب يساره. وعن ابن عباس رضى اللَّه عنهما: كان الرجل في الجاهلية يخاطر على أهله وماله قال:
أقُولُ لَهُمْ بِالشِّعْبِ إذْ يَيْسِرُونَنِى

أى يفعلون بى ما يفعل الياسرون بالميسور. فإن قلت: كيف صفة الميسر؟ قلت: كانت لهم عشرة أقداح، وهي: الأزلام والأقلام، والفذ، والتوأم، والرقيب، والحلس، والنافس، والمسبل، والمعلى والمنيح والسفيح، والوغد. لكل واحد منها نصيب معلوم من جزور ينحرونها ويجزءونها عشرة أجزاء. وقيل: ثمانية وعشرين إلا لثلاثة، وهي المنيح والسفيح والوغد. ولبعضهم:
لِىَ في الدُّنْيَا سِهَامٌ لَيْسَ فِيهِنَّ رَبِيحُ ** وَأسَامِيهِنَّ وَغْدٌ وَسَفِيحٌ وَمنِيحُ

ويروى بدل «وأساميهن» «إنما سهمي» أى سهامي، بدليل: سهام قبله...... للفذ سهم، وللتوأم سهمان، وللرقيب ثلاثة، وللحلس أربعة، وللنافس خمسة، وللمسبل ستة وللمعلى سبعة يجعلونها في الربابة وهي خريطة، ويضعونها على يدي عدل، ثم يجلجلها ويدخل يده فيخرج باسم رجل رجل قدحا منها. فمن خرج له قدح من ذوات الأنصباء أخذ النصيب الموسوم به ذلك القدح. ومن خرج له قدح مما لا نصيب له لم يأخذ شيئا وغرم ثمن الجزور كله. وكانوا يدفعون تلك الأنصباء إلى الفقراء ولا يأكلون منها. ويفتخرون بذلك ويذمون من لم يدخل فيه، ويسمونه البرم. وفي حكم الميسر: أنواع القمار، من النرد والشطرنج وغيرهما. وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم: «إياكم وهاتين اللعبتين المشئومتين فإنهما من ميسر العجم» وعن علىّ رضى اللَّه عنه: أنّ النرد والشطرنج من الميسر. وعن ابن سيرين: كل شيء فيه خطر فهو من الميسر.
والمعنى: يسألونك عما في تعاطيهما، بدليل قوله تعالى: {قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَإِثْمُهُما} وعقاب الإثم في تعاطيهما {أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما} وهو الالتذاذ بشرب الخمر والقمار، والطرب فيهما، والتوصل بهما إلى مصادقات الفتيان ومعاشراتهم، والنيل من مطاعمهم ومشاربهم وأعطياتهم، وسلب الأموال بالقمار، والافتخار على الأبرام. وقرئ: {إثم كثير} بالثاء وفي قراءة أبيّ: {وإثمهما أقرب}. ومعنى الكثرة: أن أصحاب الشرب والقمار يقترفون فيهما الآثام من وجوه كثيرة الْعَفْوَ نقيض الجهد وهو أن ينفق ما لا يبلغ إنفاقه منه الجهد واستفراغ الوسع، قال:
خُذِى الْعَفْوَ مِنِّى تَسْتَدِيمِى مَوَدَّتِى

ويقال للأرض السهلة: العفو. وقرئ بالرفع والنصب. وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم، أنّ رجلا أتاه ببيضة من ذهب أصابها في بعض المغازي فقال: خذها منى صدقة، فأعرض عنه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فأتاه من الجانب الأيمن فقال مثله فأعرض عنه، ثم أتاه من الجانب الأيسر فأعرض عنه فقال: هاتها مغضبا، فأخذها فخذفه بها خذفا لو أصابه لشجه أو عقره، ثم قال: «يجيء أحدكم بماله كله يتصدّق به ويجلس يتكفف الناس! إنما الصدقة عن ظهر غنى» فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ إمّا أن يتعلق بتتفكرون، فيكون المعنى: لعلكم تتفكرون فيما يتعلق بالدارين فتأخذون بما هو أصلح لكم كما بينت لكم أنّ العفو أصلح من الجهد في النفقة، وتتفكرون في الدارين فتؤثرون أبقاهما وأكثرهما منافع. ويجوز أن يكون إشارة إلى قوله: {وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما} لتتفكروا في عقاب الإثم في الآخرة والنفع في الدنيا. حتى لا تختاروا النفع العاجل على النجاة من العقاب العظيم. وإمّا أن يتعلق بيبين على معنى: يبين لكم الآيات في أمر الدارين وفيما يتعلق بهما لعلكم تتفكرون، لما نزلت {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْمًا} اعتزلوا اليتامى وتحاموهم وتركوا مخالطتهم والقيام بأموالهم والاهتمام بمصالحهم، فشق ذلك عليهم وكاد يوقعهم في الحرج، فقيل إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ أى مداخلتهم على وجه الإصلاح لهم ولأموالهم خير من مجانبتهم وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ وتعاشروهم ولم تجانبوهم فهم فَإِخْوانُكُمْ في الدين، ومن حق الأخ أن يخالط أخاه، وقد حملت المخالطة على المصاهرة وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ أى لا يخفى على اللَّه من داخلهم بإفساد وإصلاح فيجازيه على حسب مداخلته، فاحذروه ولا تتحروا غير الإصلاح وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ لحملكم على العنت وهو المشقة وأحرجكم فلم يطلق لكم مداخلتهم. وقرأ طاوس: قل إصلاح إليهم. ومعناه إيصال الصلاح وقرئ: {لعنتكم}، بطرح الهمزة وإلقاء حركتها على اللام، وكذلك {فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ}.
{إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ} غالب يقدر على أن يعنت عباده ويحرجهم ولكنه حَكِيمٌ لا يكلف إلا ما تتسع فيه طاقتهم.

.[سورة البقرة: آية 221]:

{وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)}.
وَلا تَنْكِحُوا وقرئ بضم التاء، أى لا تتزوّجوهنّ أو لا تزوّجوهن. والْمُشْرِكاتِ الحربيات، والآية ثابتة. وقيل المشركات الحربيات والكتابيات جميعًا، لأن أهل الكتاب من أهل الشرك، لقوله تعالى: {وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} إلى قوله تعالى: {سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}، وهي منسوخة بقوله تعالى: {وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ}. وسورة المائدة كلها ثابتة لم ينسخ منها شيء قط، وهو قول ابن عباس والأوزاعى.
وروى أنّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بعث مرثد بن أبى مرثد الغنوي إلى مكة ليخرج منها ناسا من المسلمين وكان يهوى امرأة في الجاهلية اسمها عناق، فأتته وقالت: ألا نخلو؟ فقال:
ويحك! إن الإسلام قد حال بيننا. فقالت: فهل لك أن تتزوّج بى؟ قال: نعم، ولكن أرجع إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فاستأمره، فاستأمره فنزلت وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ ولامرأة مؤمنة حرّة كانت أو مملوكة، وكذلك {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ} لأنّ الناس كلهم عبيد اللَّه وإماؤه وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ ولو كان الحال أنّ المشركة تعجبكم وتحبونها، فإنّ المؤمنة خير منها مع ذلك أُولئِكَ إشارة إلى المشركات والمشركين، أى يدعون إلى الكفر فحقهم أن لا يوالوا ولا يصاهروا ولا يكون بينهم وبين المؤمنين إلا المناصبة والقتال وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ يعنى وأولياء اللَّه وهم المؤمنون يدعون إلى الجنة وَالْمَغْفِرَةِ وما يوصل إليهما فهم الذين تجب موالاتهم ومصاهرتهم، وأن يؤثروا على غيرهم بِإِذْنِهِ بتيسير اللَّه وتوفيقه للعمل الذي تستحق به الجنة والمغفرة. وقرأ الحسن: والمغفرة بإذنه- بالرفع- أى والمغفرة حاصلة بتيسيره.